الرباب الأندلسي المغربي
بين التقديس والمنطق
جرت العادة في العقود الأخيرة أن يقدّس المغاربة، موسيقيون وهواة، آلة الرباب باعتبارها ألة موسيقية حاملة لروح الموسيقى الأندلسية وباعتبارها آلة تعطي هيبة خاصة لعازفها، وأنه لا يمكن أن يوجد جوق أندلسي بدون آلة الرباب. ولكن ما هي حقيقة هذه الادعاءات؟ هل هي صحيحة؟ هل لها أسس موسيقية أو .تاريخية أو من نوع آخر؟ لننظر في المسألة
تاريخ آلة الرباب
آلة الرباب هي من أقدم الآلات الموسيقية في شبه الجزيرة الإيبيرية ولعلها ذات علاقة بالليرة البيزنطية والتي سبقتها بأزيد من 4 قرون. كما أنها مذكورة في مراجع مسيحية أندلسية من القرن الثالث عشر وفي رسالة الشقندي في فضل الأندلس.
وفي المغرب ذُكرت آلة الرباب في مراجع قديمة وأقدم عازف مذكور لآلة الرباب هو عازف من مدينة تطوان من أبناء القرن الثامن عشر الميلادي، ذكره السكيرج في تاريخه.
هل لآلة الرباب ميزة خاصة تميزها عن باقي الآلات الموسيقية في الجوق الأندلسي؟
آلة الرباب هي آلة لحنية تختلف عن آلة العود بأنها تنتج أصواتا متواصلة وليس نقرات متقطعة. وفي موسيقى الآلة الصوت المتواصل هو من خاصيات الألحان التي لا يمكن الاستغناء عنها (أسباب ذلك مذكورة بالتفصيل في رسالتي « إستيطيقا موسيقى الآلة »).
لهذا السبب كان يوجد في الجوق الأندلسي أواخر القرن التاسع عشر عدة ربابات وعدة أعواد.
المغاربة فضلوا آلة الكمان على آلة الرباب
إلا أنه وفي ذات الفترة دخلت آلة الكمان إلى حضيرة الآلات الموسيقية الأندلسية. فما الفرق بين ما يقدمه الكمان وما يقدمه الرباب؟ الفرق هو واحد: سهولة أكثر في إنتاج الأصوات على الكمان. أما الصوت فهو قريب بين الآلتين بحكم أن آلة الكمان نفسها كانت تستعمل أوتار تقليدية من أمعاء الحيوان. لهذا السبب استحسن كل المغاربة آلة الكمان فعوّضوا كل الربابات بالكمانات ما عدا رباب واحد.
وقد حدث ذلك في كل المدن ذات التقاليد الأندلسية: تطوان والرباط وفاس وشفشاون وغيرها.
وقد فضّل المغاربة آلة الكمان على آلة الرباب لدرجة أن التادلي الرباطي في كتابه « أغاني السيقا » صنف آلة الكمان فوق آلة الرباب وقال أن الكمان أنبل من الرباب، وفوقهما آلة العود.
ما هو مصدر تقديس آلة الرباب اليوم؟
لقد اختلف رؤساء الأجواق الأندلسية من طرار (بنسلام) إلى عواد (الشودري) إلى ربايبي (الغازي، البريهي) أو كمانجي (المطيري) ولم تكن أبدا هناك أفضلية لعازف الرباب.
إلا أنه شاءت الصدف أن يتوالى في مدينة فاس رئيسان للجوق يعزفان على آلة الرباب، وهما البريهي والرايس. وبهذا أصبح أهل فاس شيئا فشيئا يقدّسون آلة الرباب، بل ويضعون لوحات للرايس يزينون بها منازلهم. وبسبب قوة الفاسيين الاقتصادية والثقافية وحصولهم على أرقى المناصب الإدارية والتجارية بالمغرب بعد الاستقلال استطاعوا أن يهيمنوا على مدن عديدة ونشر ثقافتهم بها. وبهذا نشروا فكرة أن الرباب آلة مقدسة، غير دارين، لا هم ولا المجتمعات المفروضة عليها تلك الفكرة، أن هذا التقديس لا أساس له.
وبذلك أصبح اليوم كل من يدعي الأصالة يكرر فكرة « الآلة هي الرباب… الجوق بلا رباب ما عندو معنى… » وما إلى ذلك من الادعاءات التي لا أساس لها، لا من الناحية التاريخية ولا التقليدية ولا العلمية ولا المنطقية. فنحن شعب يطبعنا التأخر الفكري في العديد من المجالات ومن سمات التأخر التقديس في غير محله والخوف من التساؤل ومن غضب الجمهور.
طريقة العزف على الرباب
في غياب الكمان كان للرباب دور الصوت المتواصل كما ذكرنا من قبل، ولهذا كان يعطي أصواتا جميلة وفخمة. يكفي أن ننصت إلى تسجيلات جوق بنسلام بتطوان سنة 1930 أو جوق البريهي بفاس في الستينيات من القرن العشرين لندرك جمال هذه الآلة، والتي كانت لا تزال تحافظ على صوتها المتواصل رغم وجود الكمانات.
إلا أنه وبعد تلك الفترة أصبح العديد من « الربايبية » يعزفون بطريقة متقطعة وأصوات قصيرة، على نمط الجعايدي، كما يظهر في تسجيلات 1932، حيث فقدت آلة الرباب كل فخامتها. وفي السبعينيات من القرن العشرين تبنى الرايس هذا الأسلوب كذلك بعد أن كان أسلوبه أسلوب الرباب المتواصل في الستينيات.
أما اليوم فالعازفون الجيدون على آلة الرباب يعدّون على رؤوس الأصابع: فإذا استثنينا بعض العازفين المتوسطين لا يوجد عازف متقن لهذه الآلة اليوم، وكان آخر عازف ماهر لها احمد الغازي.
واليوم كل جوق يُدخل بين أعضاءه عازفا على الرباب حتى يرضي الجمهور وإن كان لا يتقن العزف على آلته، فهو مجرد صورة جامدة. وهذا من علامات تأخرنا الموسيقي: المظاهر الفارغة.
هل من الممكن أن نستغني على آلة الرباب في الجوق؟
المراجع التاريخية تخبرنا أن الموسيقى الأندلسية عرفت آلات موسيقية كثيرة تغيرت واندثرت مع الزمن وهذا لم يؤثر في معاني الألحان. ومن تلك الآلات ما ذكره المقري في كتاب النفح: الروطة والجنك، 20 آلة في مجموعها، وكذلك ما ذكرته المصادر المغربية من سنتير وناي.
لهذا فإن غياب آلة الرباب لا يؤثر في روح الموسيقى الأندلسية.
الخلاصة
إذا أردنا أن نمضي بموسيقى الآلة إلى الأمام علينا أن:
نفرغ عقولنا من أفكار التقديس البدائية
نؤسس منهجا علميا للعزف على آلة الرباب انطلاقا من إمكانياته وطبيعة صوته و طبيعة موسيقى الآلة
نشترط على العازفين على هذه الآلة مستوى يجعل من العازف شخصا متمكنا فيكون بذلك صادقا ويكون الجوق جوقا محترما
احترام كل جوق يفضل أن يعطي لموسيقاه صوتا لا يوجد فيه صوت الرباب
أمين الشعشوع 04 غشت 2024
أحسنت النشر كالعادة
مقال رائع جدا سيدي آمين