اسماعيل بن أحمد التجيبيّ البرقيّ بمالقة، القرن الخامس الهجري

كنت بمدينة مالقة من بلاد الأندلس سنة ستّ و أربعمائة فاعتللت بها مديدة انقطعت فيها عن التصرّف و لزمت المنزل. و كان يمرّضني حينئذ رفيقان كانا معي يلمّان من شعثي  و يرفقان بي. و كنت إذا جنّني الليل اشتدّ سهري، و خفقت حولي  أوتار العيدان و الطنابير و المعازف  من كلّ ناحية و اختلطت الأصوات بالغناء فكان ذلك شديدا عليّ و زائدا في قلقي و تألّمي. فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعا و تكره تلك الأصوات جبلّة ، و أودّ أن لو أجد مسكنا لا أسمع فيه شيئا من ذينك ، و يتعذّر عليّ وجوده لغلبة ذلك الشأن على أهل تلك الناحية و كثرته عندهم . و إنّي لساهر ليلة-بعد إغفاءة في أوّل ليلتي، و قد سكنت تلك الألفاظ المكروهة و هدأت تلك الضروب المضطربة-و إذا ضرب خفيّ معتدل حسن لا أسمع غيره، فكأنّ نفسي أنست به و سكنت إليه و لم تنفر منه نفارها من غيره. و لم أسمع معه صوتا . و جعل الضرب يرتفع شيئا فشيئا و نفسي تتبعه و سمعي يصغي إليه إلى أن بلغ في الارتفاع إلى ما لا غاية وراءه . و ارتحت له و نسيت الألم. و تداخلني  سرور و طرب. و خيّل إليّ أن أرض المنزل ارتفعت بي، و أنّ حيطانه تمور حولي  . و أنا في كلّ ذلك لا أسمع صوتا. فقلت في نفسي: أمّا هذا الضرب فلا زيادة عليه. فليت شعري، كيف صوت الضارب و أين يقع من ضربه  ؟ و لم ألبث أن اندفعت جارية تغنّي في هذا الشعر بصوت أندى من النّوّار غبّ القطار  و أحلى من البارد العذب على قلب الهائم الصبّ  . فلم أملك نفسي أن قمت – ورفيقاي نائمان-ففتحت الباب و تبعت الصوت، و كان قريبا منّي، فاطّلعت من وسط منزلي على دار فسيحة، و في وسط الدار بستان كبير، و في وسط البستان شرب  نحو من عشرين رجلا قد اصطفّوا-و بين أيديهم شراب و فاكهة و جوار قيام بعيدان و طنابير و آلات لهو و مزامير  لا يحرّكنها-و جارية جالسة ناحية و عودها في حجرها، و كلّ يرمقها ببصره و يوعيها سمعه  . و أنا قائم بحيث أراهم و لا يرونني و كلّما غنّت بيتا حفظته إلى أن غنّت عدّة أبيات و قطعت  . فعدت إلى موضعي-يشهد اللّه-و كأنّما أنشطت من عقال  ، و كأن لم يكن بي ألم.

Laisser un commentaire