أمين الشعشوع
لقد عرفت الأندلس تعددا في الأعراق والأجناس وتنوعا في الديانات والمعتقدات والثقافات، فكان ذلك سبيلا لتلاقح حضاري عظيم أفرز مما أفرزه الموسيقى الأندلسية والتي كانت ثمرة تمازج موسيقي بين موسيقى إيبيريا القديمة وموسيقى الشرق
وبعد أن استقر الأندلسيون بالمغرب واستقرت موسيقاهم فيه تلاشى هذا الاختلاف العرقي فأصبح كل الأندلسيون أمة واحدة بل وكل المغاربة، حتى أن العديد من شيوخ وممارسي موسيقى الآلة ليسوا من أصل أندلسي، وهذا شيء عظيم وهذه هي تعاليم الإسلام الحنيف.
إلا أنه وبعد استقلال المغرب من الاستعمارات الفرنسية والإسبانية ظهرت نزعات عنصرية قوية استحوذت ليس فقط على ممتلكات ومناصب مهمة ولكن كذلك على التراث اللامادي، ومن ذلك الموسيقى الأندلسية.
ففي المؤتمر الثاني للموسيقى العربية بفاس سنة 1969 مثلا ظهرت بوادر هذه العنصرية بصفة جلية. لقد حكى لي شخصيا السيد احمد الديلان (وهو من العلماء الذين شاركوا في المؤتمر المذكور) أنه أثناء دراسة الإيقاعات والطبوع وعندما كان يعرض دراسة قد تلغي حقائق بعض الجهات العنصرية كان يُقاوم بالعنف وبالرّدع الصريح. وبما أن الأستاذ الديلان كان يتمتع بالروح العلمية المنهجية فقد كان يطالب بمقارنة الدراسات المعروضة واختيار الأفضل منها، إلا أن مجهوده كان يُحضَر بكل صراحة. فيقول له ج. امحمد بنونة: « لا تُتعب نفسك يا صديقي، هذه هي طبيعتهم ولن يتراجعوا عن ذلك. سيفرضون ما يريدون فرضه ».
وهكذا تمّ فرض صيغ إيقاعية أندلسية خاطئة تماما، ومنها صيغة البطايحي الذي لا يوافق التعبير الإيقاعي للحن الصنعة
وكذلك صيغ القائم ونصف والدرج. وبهذه اطريقة فرضت علينا إيقاعات خاطئة.
وقد اتخذت هذه الجهات العنصرية سياسة إبراز وفرض مدارسها مستغلة في ذلك نفودها المادي وعلاقاتها وكذلك غياب الضمير لديها في طرح الحقائق.
في إحدى المناسبات تمّ عرض تاريخ للموسيقى الأندلسية حُذف منه أهم شيخ في تاريخ الموسيقى الأندلسية وهو محمد بن الحسين الحائك، لا لشيء إلا لأنه تطواني. كما أنه أُقصِي عمل العلامة مولاي العربي الوزاني لا لشيء إلا لأنه طنجاوي، علما بأنه هو الذي كان الزاد والعمود الفقري الرئيسي لمؤتمر فاس 1969.
وإذا تصفح الشخص كتبهم سيفاجئ بحدّة العنصرية التي تجعل عشائرهم هم أرباب الآلة بل وعمدائها، وكيف أن تلك الكتابات تهمش بقية المدارس.
كما أن شخصا كتب كتيبا صغيرا يقول فيه أن الوكيلي كان يقول بأن الصنعة التطوانية هي صنعة ضعيفة. ونفس الشخص في كلمة ألقاها مؤخرا وفي معرض حديثه عن مدينة طنجة قال: « وتطوان في الأربعينيات لم يكن فيها ربايبي في الأربعينيات »، رغم أن سياق الكلام لا علاقة له بمدينة تطوان بتاتا.
والسؤال هو: إذا كان للعنصرية أسباب معروفة وهي إرادة التفوق وكسب المصالح والمراتب والأموال فلماذا التأكيد على تطوان بالضبط؟ لماذا يتم الهجوم على موسيقى هذه المدينة دون غيرها؟
السبب واضح ويكمن في الحقائق التاريخية لمدينة تطوان. ففي محاضرة للشيخ احمد ديدات رحمه الله مع القس جيمي سواغارت في موضوع « هل الكتاب المقدس كلام الله » قام القس بحذف عبارة « المولود له » من الآية 16 للإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا: « وهكذا أحب الله العالم حتى أعطى ابنه الوحيد المولود له كي لا يهلك كل كم يؤمن به وتكون له الحياة الأبدية ». ففضحه السيد ديدات بقوله: « لقد حذفها لأنه يعلم أن الإسلام يعارض بشدة هذه الفكرة، أن لله ولد ». » وهكذا فما قام به القس هو الاحتياط في الكلام كي لا يمنح لديدات فرصة الرد على الآية. وهذا يسمى كذلك « الهجوم المضاد قبل الهجوم ».
وهذا ما يفعله العنصريون اللوبيون في ميدان الآلة لأنهم يعلمون أن قيمة مدينة تطوان كبيرة جدا في الموسيقى الأندلسية تاريخا وقوة. فلنعرض بعض مكامن هذه القوة:
– تطوان ورثت الموسيقى الأندلسية مباشرة من أصلها، الأندلس، لأن مؤسسي المدينة أندلسيون أقحاح من مملكة غرناطة. ومما زادها تحضرا أن هؤلاء الأندلسيين الذين قدموا إليها هم من علية القوم، « زبدة غرناطة » كما يقول المؤرخ غونثاليث بوستو.
الحقيقة السابقة جعلت مدينة تطوان تتألق بصفة استثنائية في ميدان الموسيقى الأندلسية وذلك على عدة مستويات، نذكر منها:
أولا، الشخصية الأولى في الموسيقى الأندلسية منذ استقرارها بالمغرب إلى اليوم هي شخصية تطوانية وهو الفقيه محمد بن الحسين الحائك التطواني الأندلسي، وذلك بإقرار من السلطان محمد بن عبد الله العلوي والذي اختاره لينقد الموسيقى الأندلسية من الضياع ويؤلف كناشا جامعا لموسيقى الآلة يكون مرجعا لكل الآليين بالمملكة. وبالفعل اعترف به كل الأليون وأصبحت عبارة « كناش الحائك التطواني الأندلسي » دليل لا يُردّ على مصداقية الصنعة واللحن.
ثانيا، إذا كانت الموسيقى الأندلسية مثال للتفوق الحضاري فذلك يرجع كذلك لتحرر المرأة الأندلسية ومشاركتها في الموسيقى، وتاريخ الموسيقى بالأندلس حافل بالأمثلة على نبوغ المرأة الأندلسية في الموسيقى. فمنذ بداية العصر الأموي ظهرت أسماء نسوية لامعة، منها قلم، علم وقمر. أما بنات زرياب فقد كنّ يعلمن الموسيقى للرجال والنساء. أما عصر الطوائف فقد شهد حالات عديدة من تألق المرأة الموسيقية في مالقة وغيرها من حواضر الأندلس. وفي العصر المرابطي نجد للمرأة الموسيقية حظ وافر في الموسيقى لدرجة أن مؤسس النمط الموسيقي الأندلسي النهائي أخذ الموسيقى عن النساء.
,بعد سقوط الأندلس حافظت تطوان على هذه الميزة الحضارية فظهرت أسماء لامعة من الموسيقيات التطوانيات نذكر منها في القرن الثامن عشر زهور بنت عبد الرحمن الحائك والتي كانت تحفظ عدة نوبات وتدوّنها في كناشها، وفي القرن التاسع عشر فاطمة فرينشو وروزة ،وكنزة وفي القرن العشرين الحاجة سيلي وفطومة التطوانية ومنانة الخراز وعالية مجاهد والزهرة أبطيو وغيرهن.
ثالثا، من الصفات الحضارية التي حافظت عليها تطوان مفهوم الانفتاح. لقد كان التطوانيون أول من أدخل آلة البيانو إلى حضيرة الموسيقى الأندلسية وذلك بعد أن طلب سيدي عبد السلام بن ريسون من سفير المغرب ببريطانيا سيدي عبد الواحد بريشة أن يرسل له هذه الآلة إلى تطوان. ولا زال هذا البيابو إلى اليوم موجودا بدار سيدي عبد السلام الصفار رحمه الله.
كما أن أول كمان دخل الموسيقى الأندلسية كان بتطوان كذلك، حتى أن سلسلة رواد الكمان، من بدايتها إلى اليوم موثقة وهي: محمد بن عبد اللطيف (أواسط القرن التاسع عشر)، العربي الحمار (نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين)، محمد المؤدن (النصف الأول من القرن العشرين)، عبد الصادق اشقارة. (النصف الثاني من القرن العشرين).
رابعا، من الصفات الأندلسية كذلك التجديد. منذ القرن التاسع عشر والتطوانيون يجددون في موسيقى الآلة ولكن دائما في سياق أندلسي وبروح موسيقى الآلة. وهكذا ففي أواسط القرن التاسع عشر وضع سيدي عبد السلام بن ريسون بنية جديدة لميزان الآلة عُرفت ب »ترصيع النغم ». كما أنه اخترع آلات جديدة وهي السلاكة ومحسن النغم. وهذه الأخيرة شبيهة بآلة السانفونة التي كانت مُستعملة بالأندلس. وأبحاث سيدي عبد السلام هدته إلى السلاكة والتي استوحاها من المونوكورد الإغريقي.
خامسا، من ناحية البراعة حدّث ولا حرج: كان عبد الصادق اشقارة أكبر عازف كمان أندلسي في المغرب ومحمد العربي التمسماني أكبر عازف بيانو والمختار مفرج ومحمد العربي التمسماني أكبر عازفي العود.
سادسا، من ناحية الرقة وهي صفة أندلسية صرفة وعلامة على الرقي الحضاري فقد كان صوت محمد ابن الابار عسل يقطر مثله مثل نوطات عبد الصادق اشقارة. حتى آلة الزائد نقط في تطوان كانت تتميز بالرقة، فبينما تتباهى عشيرة العنصريين ب »البلدي والشخدة!! » تجد التطوانيين يتباهون بالرقة و »النقاط ديالو بحال الزبدة ». فهل كان شعراء وملوك موسيقيي الاندلس في قصورهم يتباهون بالرقة أم بالشخدة؟
حتى آلة الرباب كان لها شكلها المتميز وصوتها الرقيق في تطوان، عكس الرباب الذي ساد اليوم والذي يُسمع وكأنه ضفدعة تغرق في وحل. على ذكر الرباب فإن شهادات وجود آلة الرباب في تطوان ترجع إلى القرن الثامن عشر الميلادي. ففي كتاب « نزهة الأخوان وسلوة الأحزان في الأخبار الواردة في بناء تطوان و من حكم فيه أو تقرر من الأعيان » يذكر مؤلفه محمد عبد السلام بن أحمد السكيرج المزداد سنة 1732 أسماء لعازفي الرباب تطوانيين ومنهم ابن زاكور، وفي القرن التاسع عشر العربي بنونة، وفي القرن العشرين الشودري والغازي والدريدب
سابعا، في ميدان البحث الموسيقي لن تجد في عشيرتهم العنصرية من يضاهي أعمال احمد الديلان أو من استطاع فهم اللحن الأندلسي وقوانينه.
ثامنا، بينما تطوان لا زالت إلى اليوم تحافظ على الطابع الأندلسي وتبتعد كل البعد عن ما يعكّره تجد عشيرتهم العنصرية هي السبب الأول في انحطاط الموسيقى الاندلسية وتلطيخها: فقد أدخلوا المقامات الشرقية فهدموا الطبع وأدخلوا الكمان « مي لا ري صول » وهدموا الأبعاد النغمية الأندلسية وأدخلوا التّوثر وهدموا فخامة موسيقى الآلة، حتى جمهورهم العنصري أدخل عادات الحلقة والفلكلور عند الاستماع إلى الموسيقى: الصراخ، الوقوف، القفز، الحركات بالأيادي… والله يخيّل لك أنك في غابة الأمازون، لا ترى علامة واحدة للتحضر أو التمدن.
تاسعا، من ناحية المشيخة لم يُعط القرن العشرين شيخا أكبر من الحاج محمد الشودري التطواني والذي كان يحفظ 1200 صنعة، بينما عشيرة العنصريين لا تتوفر إلا على 800 صنعة تقريبا. أما اليوم فلا يوجد شيخ يحفظ أكثر من المهدي الشعشوع التطواني والذي يمتلك 1030 صنعة. لهذا السبب عندما اشتدت الأزمة الموسيقية بمنطقة اللوبي واضطروا لتلخيص الحائك حتى يسايروا وضعيتهم أكد ج. عبد السلام بنونة من تطوان أن التطوانيين لا يعترفون بهذا التلخيص ويتشبتون بكناش الحائك. لهذا تجد اللوبيين اليوم يعارضون كل صنعة ليست لديهم وينعتونها ب »المُلحَّنة.
هذا الوضع وهذا التألق جعل الوكيلي عندما جاء إلى تطوان لم ينل من المكانة إلا القليل، لأن تطوان كان فيها من المعلمين ما لا يعد ولايحصى: الشودري، العربي الغازي، سلام الغازي، بن سلام، احمد الشارف، العياشي الوراكلي، بالأمين العلمي، الخ. فالوكيلي ورغم مشيخته الكبيرة لم يكن سوى عوّادًا بجوق تطوان.
ما هذه إلا نمادج ضئيلة من تجليات حضارة تطوان لا لشيء إلا لأنها امتداد لأرقى جانب من الحضارة الأندلسية، حضارة الأرستقراطية الغرناطية. واللوبيون يعرفون هذا منذ الاستقلال، كانوا يرون في تطوان المنافس الثقافي الذي يزعج. لا داعي لذكر ما فعلوه في الميادين السياسية والاقتصادية ولكن في ميدان الموسيقى فإنهم في ضجر من الوضعية لأنهم يرون اجواقهم ويعلمون أنه ليس فيها ما يُمدح. ليس فيهم ولا عازف عود أندلسي في المستوى ولا عازف كمان أندلسي في المستوى، حتى أن الذين تألقوا نسبيا فكان ذلك لأنهم تعلموا الكمان الكلاسيكي ولم ينبعوا من العمق الأصيل الأندلسي، عكس عبد الصادق اشقارة أو المختار مفرج. ولا زالوا إلى اليوم يؤلّهون أجواقا كلها نوطات خاطئة وأصوات محرفة وجمل لا معنى لها. وإذا سألتهم أين تكمن مزايا أجواقهم والله لن يجدوا جوابا واحدا مقنعا. يقتصرون على صراخ: « معلم!! العميد!! الشيخ!! ». والله إن سألتهم لن يجدوا علة واحدة على كلامهم..
كما أنه وإضافة إلى جماعة اللوبيين تجد جماعة المنافقين الأدلاء، وهم الذين يتملقون للوبيين أصحاب المال والذين يقولون ما يعجبهم فيكسبون بذلك رضاهم.
قبّح الله الكذب وشهادة الزور. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
صحيح أنه يوجد بين هؤلاء الناس وفي وسط أعشاشهم أناس صادقين واعمالهم وإن كانت سيئة فإنهم ضحايا هذه الدعايات الشيطانية، ولكن على أي حال لم تصل الموسيقى الأندلسية في كل تاريخها إلى هذا المستوى من الفساد والزور وإعلاء الموسيقى الرديئة فوق الموسيقى الصحيحة. ولكن، ولله الحمد، للحق قوته والكذب لا يدوم إلى الأبد
رحم الله مِن الرواد مَن كانوا يحترمون الآخر ويمتعوننا بموسيقى راقية وأصيلة أثناء الستينيات من القرن العشرين، وأقصد بهذا التمسماني والوكيلي والرايس واشقارة والتويزي والشافعي والطود والخصاصي والمختار وغيرهم من « أولاد الناس » المقتدرين بمعنى الكلمة.
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
صدق الله العظيم
👍👍👍👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏🤲🤲🤲🤲🤲👏👏👏