الموسيقى الأندلسية بين الأصالة والتجديد والمزج

مقدمة

كان أفلاطون يعارض موسيقى زمانه وتجديداتها، بدعوى أن الموسيقى رمز لقيم أزلية ومبادئ كونية، « فمن السخافة إجراء تجديد فيها كما لو كنا نريد تجديد قوانين الكون »

أما عن التجديد في السياق الأندلسي فأول شيء يجب أن نوضحه هو أن كل موسيقى حيّة يجب أن تكون ديناميكية، لأنها لو كانت جامدة متوغّلة في حقبة معينة وبأسلوب خاص بتاريخ معين وبآلات موسيقية لا تتغير ولا تقبل تجديدا فإنها آنذاك موسيقى ميتة. يقول لورون أوبيرت


كل تقليد ما دام حيا، فإنه يولّد تغييراته الخاصة، ولكن بدون أن تعارض هذه الأخيرة بالضرورة المبادئ والفئات والمقاييس المكوِّنة لهويته والمشتركة بين أهالي مجموعته[1]

لقد عرفت الموسيقى الأندلسية عدة تغييرات منذ استقرارها بالمغرب، يمكننا أن نصنّفها على النحو التالي

منذ دخول الموسيقى الأندلسية إلى المغرب حتى بداية القرن العشرين. وهي فترة التغيير والانحطاط المستمرّ. وسبب هذا الانحطاط هو تغيير البيئة العامة من أندلسية إلى مغربية، فالمغرب لم يعرف التطور الحضاري الذي عرفته الأندلس ولا النشاط الفكري ولا نوع الحضارة التي تجمع بين الهوية الإيبيرية الهوية العربية. كما أن ضياع النظرية الموسيقية تسببت في اضمحلال الموسيقى الأندلسية

من أواسط القرن العشرين حتى عقد الثمانينيات من نفس القرن. ظهرت في هذه الفترة صحوة موسيقية بفضل تأثير النهضة العربية المشرقية والوجود الأوربي في المغرب، نهضة قادها مفكرون وموسيقيون أمثال امحمد بنونة والعربي الوزاني ومحمد ابن الأبار واحمد الوكيلي محمد العربي التمسماني وعبد الكريم الرايس وغيرهم. لقد كانت هذه الصحوة عموما إيجابية لأن الذين قادوها كانوا يتّسمون بالتوازن بين التكوين التقليدي والعناصر الحديثة. لهذا فإن إدخال بعض التعديلات اقتداء بصنيع الغربيين والشرقيين لم يؤثر في أصالة الموسيقى الأندلسية لأن الحس التقليدي لهؤلاء الشيوخ كان يحقق التوازن الضروري

من ثمانينيات القرن العشرين حتى اليوم: التّحوّل هو تحوّل سلبيّ إلى أقصى درجة. أدخل الموسيقيون المقامات الشرقية على الطبوع المغربية كما أنهم أدخلوا عوامل التوثر والعزف العشوائي وحذفوا منها رقتها وفخامتها، فضاعت أصالتها ومميزاتها الحضارية

هكذا ندرك بأن الموسيقى الأندلسية عرفت تحولا مستمرا

خلق ألحان جديدة

إن التلحين في الموسيقى الأندلسية هو تجديد لمجموع الألحان الموجودة فيها أي أنه إضافة كمية. وفي السياق الأندلسي إن صفة الملحن بعيدة كل البعد عن صفة الملحن الغربي بعد عصر النهضة، لأن الملحن الأندلسي لا يبحث عن عمل فردي ولكنه يبحث عن التلاحم مع الفضاء الروحاني للطبع وخدمته، عكس الملحن الفردي في العالم الغربي[2]. إن التلحينات المولّدة في السياق الأندلسي سوف تكون شبيهة بباقي التلحينات التي تقع على نفس الطبع لأنها تعبّر عن فكرة جماعية ولا تحمل علامة مميزة لملحّنها.

خلق أنماط جديدة

أما التجديد الكيفي والذي هو الأكثر عمقًا هو تغيير في الأساس ولكن مع مراعاة النوع الثقافي للموسيقى الأندلسية

لقد حدث التجديد في الأندلس مع زرياب وابن باجة اللذان خلقا نمطين موسيقيين جديدين. ولهذا التجديد قوانينه يجب احترامها، وإلا ستتولد موسيقى أخرى غير الأندلسية وجب إطلاق اسم جديد. وهذا يسبّب ظاهرة أخطر من الاستيلاب الثقافي، وهي تعويض ثقافة بثقافة أخرى.

إذن ما هو التجديد الحقيقي للموسيقى الأندلسية؟

التجديد يستوجب أولا وقبل كل شيء تحديد المفاهيم الثابتة التي لا تتغير عبر الزمن وفصلها عن المتغيرات. والعناصر الثابتة هو كل عنصر يمنح للموسيقى الأندلسية هويتها، وهي:


أ. مفهوم الطبع الأندلسي: القرار والنغمات الرئيسية والخلايا ونغمة السرد وأبعاد السلم. هذا المفهوم تولّد عن البيئة الأندلسية بمعنى أنه متصل بصميم الهوية.

ب. الخط اللحني: وهو وليد البيئة الأندلسية المغربية. وللموسيقى العربية الشرقية خطها اللحني وللغربية كذلك، الخط اللحني يميز النمط الموسيقي.

أما العناصر المتغيرة فهي:

الآلات الموسيقية المستعمَلة: إدراج آلات جديدة تلائم الصوت الأندلسي.

ب‌.    التوزيعات اللحنية: خلق توزيعات جديدة سواء كانت آلية أو غنائية.

ت‌.    أشكال موسيقية جديدة: خلق أشكال جديدة، تجمع مثلا بين الإنشاد والمشالية.

ث‌.    ترتيبات جديدة للميزان غير ما أقره الشيوخ المغاربة (البوعصامي والحائك…)، سواء في ترتيب الصنائع أو ترتيب الميازين أو ترتيب المكونات الموسيقية بين مشالية وبغية وصنعة وتوشية وإنشاد.

طبوع جديدة: اختراع طبوع جديدة تخضع لنفس شروط الطبع الأندلسي، ثم نسج ألحان جديدة عليها.

إيقاعات جديدة: خلق إيقاعات جديدة وتطبيقها على الطبوع اللحنية.

إلا أنه في العصر الحالي أغلب الإمكانيات المذكورة غير ممكنة، لأنه وبكل بساطة لا يوجد موسيقي واحد في المغرب وخارجه يعرف قوانين الألحان الأندلسية. لهذا فمن يقوم بأي تلحين أو تجديد يفسد العمل ويحرف الموسيقى عن هويتها.

المزج

نقصد بالمزج مزج الموسيقى الأندلسية بأنماط موسيقية أخرى. فما هي شروط هذا المزج؟
في ها الموضوع يوجد حالتان:

إما أن يسعى الموسيقي إلى إبراز تشابه حاصل بين موسيقى الآلة وموسيقى غيرها، وهذا هو ما يفعله الموسيقيون الذين يمزجون صنائع الآلة بألحان موسيقى أوربا الوسيطية سواء منها الدنيوية (التروبادور، الكانتيغاس…) أو الدينية (الليتورجية الإسبانية، الغريغورية…)،

وإما أن يسعى الموسيقيون إلى خلق تزاوج بين أنماط مختلفة.

فما هي شروط عملية المزج عموما؟
يجب أن يحدث المزج دون إحداث خلل في المميزات التعبيرية الموسيقى الأندلسية، ومميزاتها التعبيرية تكمن في مفاهيم الغنى والفخامة والرقة. لهذا السبب لا يمكن مزج موسيقى الآلة بأية موسيقى شعبية لأن هذه الأخيرة تفتقر للغنى الموسيقي وفي كثير من الأحيان تفتقر أيضا للرقة الموسيفية والفخامة. بمعنى أننا بهذا العمل نقوم بضرب الصفة العالمة للموسيقى الأندلسية. لقد مزج عبد الصادق اشقارة وغيره موسيقى الفلامنكو ولكن دائما بالموسيقى الشعبية التطوانية ولم يمسوا الموسيقى الأندلسية، هذا هو الاحترام الفني. وفي نفس السياق فإن مزج موسيقى الآلة بموسيقى أوربا الوسيطية هو لقاء بين نمطين متساويين في الرقي والرقة والغنى، عمل لا يطيح بتاتا برفعة موسيقى الآلة.

والمزج لا يكون دائما من جهة الألحان، قد يكون من جهة الآلات المستعملة. لا يجب استعمال آلات تخل بالنغمة الأندلسية من حيث أبعادها وخصوصياتها الجمالية من فخامة ورقة. لهذا لا تصلح العديد من الآلات الشعبية في موسيقى الآلة.
والمشكلة الكبيرة تكمن في أنه اليوم تكاثرت محاولات المزج بموسيقى الآلة ولكن بدون مرجعية علمية ولا فنية. الكل يسمع الاستهلال فيقول « جميل أن نخلط هذا بالعجم الشرقي أو بسلم دو الكبير الغربي ». يعني أن الموسيقيين يشتغلون في جو من الجهل والاستهتار بالأسس العلمية لللحن الأندلسي.

الغاية من المزج
ولكن مع كل هذا ما هو هدف المزج في موسيقى الآلة؟
يوجد بطبيعة الحال من يجدد قصد الإتيان بالمفاجأة التي ستجلب اهتمام الناس وتفتح له السوق التجارية الموسيقية. وهناك من يمزج كمحاولات واجتهادات ثقافية، وهؤلاء هم قلة القلّة.
ومؤخرا سمعنا أن المزج هو من باب « تحبيب الموسيقى الأندلسية للشباب ». ما معنى هذا؟
لقد قام منشد في السبعينيات بإدخال الألحان الشرقية في موسيقى الآلة بجوق البريهي بفاس فاستنكر ذلك الكثير من الناس ولكن كانت هناك طبقة متعصبة وعنصرية بدأت تعلل هذا الصنيع بما يلي: « لقد أدخل المواويل الشرقية لتحبيب الموسيقى للعموم. لأن العموم يعجبهم الشرقي ». يا لها من حجة بليدة وخطيرة في آن واحد، فقد كان من نتائج هذا العمل الشنيع أنه بعد أن كانت فاس مركزا مشعا لموسيقى الآلة (انظر تسجيلات جوق البريهي في الستينيات) أصبح لا يوجد اليوم بمدينة فاس منشد واحد أو عازف كمان واحد يؤدي مواويل أو تقاسيم أندلسية، كما أن المقامات الشرقية اخترقت الصنعة الأندلسية فأُدخل مي ربع نقط في رمل الماية والاصبهان مثلا. لقد حكموا على هذه الموسيقى بالتّلطّخ.


لهذا فالسؤال الذي يتبادر للذهن هو: ما معنى أن نحبب الآلة للشباب عن طريق إدخال آلات شعبية وموسيقى فلكلورية في طيّها؟
نلعب بالنار: فكما أن المواويل والتقاسيم الشرقية لم تغادر الآلة ولكنها لصقت ألحانها كالميكروب فإن التعبير الفلكلوري سيلصق بدوره في موسيقى الآلة. هذا يسمى بكل بساطة « التربية ».
فإذا تربيت في منزلك على طبع معين فإنه يلصق بشخصيتك طوال حياتك، وإذا اكتشف الشباب موسيقى الآلة عن طريق جيل جيلالة أو الحاجة الحمداوية سيؤدونها مستقبلا بأسلوب جيل جيلالة وصوت الحاجة الحمداوية. رحم الله محمد العربي التمسماني الذي كان يقول دائما: « لا يجب أن نُنزل الآلة للناس ولكن علينا أن نرفعهم إليها، فيفوزون بعظمتها« .

هل رأينا موسيقى عالمة واحدة في العالم تمزَج بالفلكلور الشعبي قصد تحبيبها للشباب؟ ما هذا العبث؟؟؟؟ أعيد وأكرر: إننا والله نلعب بالنار.
معلوم أن أغلب الموسيقيين الأندلسيين اليوم لا يهتمون بالآداء الممنهج ولا بالتكوين العلمي ومعلوم كذلك أن أغلب الجمعيات تفتقر في مكاتبها إلى مثقفين وعلماء في موسيقى الآلة يوجهون الأنشطة بحكمة، إن أمر العلم لا يهمهم بتاتا، إن أغلب الجمعيات ما هي إلا « ممون حفلات »، ومنظم سهرات، ويحتقرون العلم الموسيقي، وهو لا يدخل في ميكانيزماتهم التصوّرية للموسيقى الأندلسية (البلدي والشخدة هي الأساس)، وهذه هي الطمة الكبرى، فالعمل بدون علم يفسد المنتوج وإذا أسندت الأمور لغير أهلها فانتظر الساعة. مسكينة الموسيقى الأندلسية وما تعانيه من تشويه، فعوض أن نفكر في إصلاح عزف الأجواق واسترجاع الخصوصيات الحضارية لموسيقى الآلة عن طريق الضغط على الأجواق قصد تحسين الآداء فإننا نزيد الطين بلا ونزيد في « فَلْكْلَرَة » الآلة.


لهذا فإني أؤكد فكرتي الدائمة: إننا نعيش أكبر أزمة عرفتها الموسيقى الأندلسية منذ نشأتها


[1] Aubert Laurent, « Les cultures musicales dans le monde », in NATTIEZ Jean-Jacques : direction, Musiques, Une encyclopédie pour le XXIe siècle, t. 3, Musiques et cultures, Actes Sud, 2005, France, p. 40.

[2] VON MARTIN Alfred, Sociología de la cultura medieval, traduction: TRUYOL Y SERRA Antonio, Instituto de Estudios Políticos, 1970, Madrid, p. 101. ترجمة المؤلف

Laisser un commentaire