جمهور هواة الموسيقى الأندلسية والطّرب

من كتا ب الموسيقى الأندلسية المغربية، الآلة. التاريخ – المفاهيم – النظرية الموسيقية
أمين الشعشوع
فبراير 2011

موضوعية الذوق والتصرف
من بوادر الفكر المعاصر الحرية في الفكر وفي المعتقد وفي الذّوق وفي اختيار مناهج العيش وتطبيقاتها
هكذا ظهرت بعض التيارات التي تقضي بالحرية المطلقة في كل شيء بينما أخرى تدعو إلى الاعتدال والتوازن بين الواجبات في كل المجالات والحريات. ولا زالت توجد تيارات متطرفة تنهى الإنسان عن أية حرية وتدّعي أنه من الأفضل للإنسان أن يمتثل بالأوامر بصفة كلية وبدون مجادلة. والمنهج الذي نختاره هو المعتدل المتّزن والذي يقضي بما يلي

أولا، يوجد في الكون ولدى الإنسان قواسم مشتركة تتقاسمها كل مخلوقات الكون، وهي القواعد الفيزيائية والميكانيزمات العاطفية والمنطق العقلاني الرياضي. هذا هو ما نسميه سنن الله في خلقه
فمثلا إذا سمع الإنسان مقام النهاوند الشرقي لن يقول أنه مقام مفرح أكثر من مقام العجم، مما يجعل حزن النهاوند حزنا شاملا لكل الحضارات، وهو ما يسميه الغربيون « المقام الصغير » ويعزون إليه أحاسيس الحزن والاكتئاب. ويتفق في ذلك كذلك الترك والفرس والهنود
كما أنه إذا سقط شخص من أعلى المرتفعات سوف يتضرّر، ولن نقول: « بالنسبة للشعب الفلاني السقوط أمر صحّيّ
و2 + 2 تساوي 4 لدى كل الثقافات وفي كل مجرّات الفضاء
حتى الذوق يخضع لناموس مشترك. لقد جعل الله لفضلات الإنسان رائحة كريهة بالنسبة لكل الناس والحضارات. ولو قال شخص « تعجبني رائحة الفضلات » قد نصدّق كلامه ولكننا سنقول: ذوق فلان معتلّ

ثانيا، إن القانون الميكانيكي الحركي يقضي بأنه كل ما تعقّدت ميكانيزمات الآلة الميكانيكية وكلما ثَقُلَ وزن أجزاءها كلما أصبحت حركته بطيئة، لأن الطاقة الحركية تكون مسؤولة عن تحريك جسم أثقل وإجراء عمليات أعقد، لهذا فإما أن تكتفي بالقدر العادي من الطاقة وتكون الحركة بطيئة أو تأتي بطاقة عملاقة حتى تمكِّن الآلة من اكتساب سرعة أكبر
وهكذا كلما رأينا جسما كبيرا يتحرك ببطئ كلما أعرناه قيمة أكبر لثقله أي لوزن وتعقيد مكوناته.
وهذا القانون الفيزيائي يتعدى ميدان الميكانيك ليلج ميدان الشعور بل وميدان الروحانيات وهو ما نراه سواء في حلقات الذكر أو في تصرفات الحكماء: إن الحركة من تجليات المادة وكلما سما الإنسان فوق الماديات كلما تنزّه عن الحركة شيئا فشيئا، حتى يصل إلى درجة التأمل فتنقطع حركاته ويسبح في عالم الروحانيات الذي يقع فوق ما هو مادّي حركي. ومن السمات الظاهرة للحكماء قلة الحركة أو بطئها
وفي الأنماط الموسيقية الروحانية توجد رموز كثيرة لهذه الظاهرة الروحانية تتجلى مثلا في نغمة السّرد للطبع الموسيقي والتي تحبس حركة اللحن في نغمة معينة قصد التنأمل أو التركيبة التأملية للإنشاد الذي يتنزّه عن الحركية الإيقاعية ويتطوّر في إيقاع روحاني غير خاضع لقوانين الزمن والمادة

الظواهر الاجتماعية والحكمة
المجتمعات التقليدية تستمدّ مبادئها من النظرة الروحانية سواء كانت دينية أم لا. ومن هذا السّموّ الروحاني الذي ينزِّه صاحبه عن الحركة استمد الناس أسس السمو الاجتماعي، فأصبح الحاكم أو القائد يتميز ببطئ الحركة والسّكون حتى أصبح البطئ والسكون من سمات الفخامة والسّموّ الاجتماعي، فأصبح الملك يدخل ببطئ ويتكلم ببطئ ويدير وجهه ببطئ، فقلّده في ذلك كل حاكم وسيدٍ في قومه. وتقبلت المجتمعات هذا التصرف لأنه يوافق، كما أوضحنا، سنن الكون والمادة والروح

وفي الميدان الموسيقي تجلت هذه المبادئ وكلما كانت الموسيقى بطيئة وبحركية صعيفة كلما اعتُبِرت موسيقى عالمة وراقية، وهذا حال الموسيقى عند الأندلسيين والشرقيين والغربيين. حتى إذا رأينا شعبا لا يمتلك موسيقى بطيئة وثقيلة قلنا أنه شعب غير متحضر. ففي الموسيقى الأندلسية نعتبر أرقى المقاطع تلك التي تقع في المرحلة الأولى لبطئها وثقلها وتعقيد ألحانها (انظر أجزاء الآلة الميكانيكية أعلاه) وهو ما نسميه الموسّع. وبتناسق مع الموسيقى يكون شيوخ الجوق في بطئ وسكينة تليق بأناقة الموسيقى

جمهور الهواة
إن جمهور الموسيقى الأندلسية يُشكّل جزءا لا يتجزأ منها ويدخل في سياقها الحضاري والاجتماعي والتاريخي. لهذا فكلما ارتقى الشخص في ذوقه كلما كان تصرفه إزاء الموسيقى تصرفا ساميا وفخما أي ببطئٍ في الحركة
فالحركة تشغل إحساس وروح المستمع عن الغوص في أعماق اللحن واستيعاب معانيه الدقيقة. الحركة لا تجعل الإنسان يتّصل إلا بما هو عَدَدِي. فالإيقاع أو حجم القوة الصوتية والعدد هو الوجه المادي للأصل الروحاني أي الجودة، بمعنى أنه كلما ركّز الإنسان على الحركة كلما دنى إلى مستويات سفلية في الاستيعاب الموسيقي واكتفى بما هو كمّيّ، والكمّ يؤدي إلى إبراز الحركة أكثر أي أنه يزيد فيها ويسرعها. قال أحمد بن الطيب السرخسي: « ليس دليل الفهم في السامع أن يطرب أو يتطارب، بل ربما كان سرعة الطرب أدل على جهل السامع بما سمع وقلة معرفته، …فأقل الناس علمًا بالغناء أسرعهم طرباَ على كل مسموع، وأكثر الناس علمًا به وأشدهم تقدمًا في معرفته أبعدهم طربًا عليه وأقلهم رضى بما يسمع منه وهذه القوة في الإنسان قوة شريفة وأخلق بها أن تكون معدومة في كثير من الناس، و إنما تخص الإنسان التام التمييز »[1].

إنّ المستمع يجب أن تتوفر فيه بعض الشروط كي يكون أهلاً لأن تُطلَق عليه صفة « الولوع بموسيقى الآلة » أو « المولوع » بدارجتنا المغربية. ومن تلك الشروط

أ. التمييز بين موسيقى سليمة وبين موسيقى تشمل أخطاء فادحة، من جمل شرقية أو خلط بين الطبوع أو توثر وحركية في غير محلّها

ب‌. تَجَنُّب « الجدبة » وهو التّوتر عند الإنصات واضطراب النفس لما لا تطيقه، فنقول « فلان جدب ». الكثير من الناس يخلطون الجدبة بالوَجد. والوجد هو « أن يفنى (الإنسان) بالكلية عن نفسه وأحواله، أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها »[2]، وهذا بالطبع ما لا يحصل لبعض الولوعين الذين يصيحون ويتحركون بتوتر. إنّه مجرد هيجان غرائزي، نتيجته عدم التركيز على لبّ اللّحن، والانشغال بالحركة الإيقاعية وبالمعنى السطحي للألحان من صعود النغمات ونزولها. وهكذا فإن الجدبة هي من الأدلّة على عدم استيعاب ألحان الآلة كما يجب، لأن « الجدبة » هذه تحصل عادة عند سماع الانصرافات وخاصة الانصرافات الحثيثة، مع أنه إذا كان التأثير صادقًا وفي محله لكان أجدر أن يحدث على مستوى صنائع « الموسّع » حيث يظهر عمق الطبع أكثر. وكل هذا بعيد كل البعد عن الوجد حيث « يسمع (المرء) لله وبالله وفي الله ومن الله وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق، وعبر ساحل الأحوال والأعمال، واتحد بصفات التوحيد… »[3]. مرة أخرى وللأسف يتغلب الكم (الإيقاع) على الكيف (اللحن)

لكل هذا نستنتج أنه كل ما كان الإنسان في سكينة وهدوء أثناء إنصاته إلى الموسيقى الأندلسية كلما كان استيعابه أعمق يبحث عن أرقى ما في اللحن وأعمق ما فيه، فكان مستمعا متحضرا فخما أنيقا. ليس غريبا أن تكون موسيقى الشعوب البدائية موسيقى إيقاعية مصحوبة برقصات متوثرة وخفيفة شأنها في ذلك شأن الأنماط الموسيقية الفلكلورية غير العالمة


[1]  كتاب كمال أدب الغناء – الحسن الكاتب. ص 20.

[2] إحياء علوم الدين – أبو حامد محمد بن محمد الغزالي. ج 2 ص 398.

[3] نفس المصدر. ج 2 ص 398.

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *