إذا كانت الألحان الأندلسية تتميز عن ألحان باقي المدارس الموسيقية الإسلامية بمفهوم التركيب بالخلايا، فإنه من بين مجموع الخلايا الأندلسية (فا لا صول – مي ري دو – دو ري مي – فا صو لا – لا صول فا – فا مي ري دو – …) تنفرد خلية « دو ري فا » بمكانة خاصة. فبالإضافة إلى كونها من الخلايا الرئيسية لطبع المشرقي (انظر صنائع: نزهة النفس – أشهل العين – يا صاحب العذار – هل تستعاد – سقيت كأس الهوى قديما – تعلم يا خلي – من عنده خله – قد بدا ما كنت أخفيه – غيبتك زادتي الأشواق…)، نجدها بكثرة في ألحان باقي الطبوع والنوبات، نجدها في نوبة رمل الماية (صلى عليك إله العرش ما سجعت – الله يفعل ما يشاء)، الماية (مشتاق إلى أحبة صاروا)، غريبة الحسين (امزج الأكواس – يا غرير – وصلك حياتي)، الرصد (أدرها إيراد – امنع رقادي)، العشاق (يا قلبي كم تسعدني وجدا)، رصد الذيل (إني رأيت حمامة)، وما هي إلا أمثلة قليلة من بين العشرات الموجودة في مجموع ألحان موسيقى الآلة.
ولكن لماذا هذه المكانة الخاصة لهذه الخلية؟ الأسباب متعددة:
أولا، دو – ري – فا هي من الخلايا الأساسية لموسيقى أوربا قبل وأثناء العهد الأندلسي،
سواء في الموسيقى الدينية أو الدنيوية. نجدها في الغناء الغريغوري وفي أناشيد
الصديق بجليقية وفي موسيقى السيلت شمال أوربا وفي الليتورجية
الإيبيرية. ومعلوم أن الأندلس، موسيقيًا، وريث الميول والذوق الأوربي القديم.
ثانيًا، إنها خلية تعبر عن عظمة الله وسمو الإنسان في جهاده اليومي قصد نيل المراتب الروحانية العليا.
فإذا اعتبرنا مثلا خلية « دو ري مي » نجد فيها مسيرة
متشابهة بين « دو وري » من جهة وبين « ري ومي « من جهة أخرى، فهو
نفس البعد الطنيني. إذن لا تغيير ولا سمو.
أما إذا اعتبرنا خلية « دو ري
صول » أو « دو ري لا » أو « دو ري سي » فالبعد الثاني يحملنا
إلى نغمات العقد الثاني (صول لا سي) والتي، في عقدها، لا تقع أعلى الجنس، لهذا فهي لا تعطينا إحساسًا بالعلو.
بقيت نغمة دو في العقد الثاني،
ولكنها لا توحي بالعلو لأنه جواب للنغمة السفلى للنظام، وهي دو القرار، لهذا
فهي ترجعنا إليه، خصوصا وأنه في الموسيقى القديمة كان الجواب يعتبر من طبع
القرار قابلا أن يحل محله.
أما خلية دو – ري – فا، فهي قادرة على التعبير على السمو لأن البعد الثاني « ري فا » يسمو ويكبر مقارنة مع البعد الأول (1،5 مقابل 1)، وهكذا يعبر الجمع عن خطوة بشرية مادية (دو – ري) أولا، يليها صعود ما فوق المادة (ري فا)، أي صعود روحاني، لهذا خلية دو – ري – فا تحمل رمزًا روحانيًا في لحنها،
ثالثا، كان للأوربيين ميلٌ إلى بعد الثالثة صغيرة يتجلى في بعد « ري فا »، وهو ما يفسره المغاربة اليوم خطأ بأنه تأثير أمازيغي (المدعو خطأ: السلم الخماسي).
رابعا، هي خلية أساسية لدى المسيحيين بأوربا وحتى قبل انتشار
واستقرار المسيحية في ربوعها، لأن الشعوب القديمة كانت ذات وازعٍ ديني قوي،
سواء من منظور مسيحي أو قبله المسيحي (الدرويد وعبدة ميترا وغيرهما) أو بعده، أي
إسلامي.
ولا زلنا اليوم نجد خلية « دو
ري فا » في ترتيل الذكر الحكيم بين المقرئين المغاربة في القراءة الجماعية
والتي ينفرد بها المغرب بين البلدان العربية الإسلامية، لأنه وريث الحضارة
الأندلسية والتي ما هي إلا حضارة أوربا مهيكلة بقالب إسلامي ومكونات إضافية عربية
أمازيغية.